اشترى إخوته

كان لهذا الرجل ثلاثة أولاد، إثنان كبيران والثالث صغير يصغر عنهما بسنوات كثيرة. وكان هذا الرجل يعمل في التجارة، وباركه الله فكانت تجارته ناجحة، وكان ذلك في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين. كان هذا الرجل تقيًا له علاقة طيبة بالكنيسة، وربى أولاده في مخافة الله، وكان الإبن الأصغر طفلاً صغيرًا، أحب الكنيسة وارتبط بمدارس الأحد. مرَّت السنوات بهدوء، وتجارة هذا الرجل تزداد، وبيته يحيا في سلام، وأولاده ينمون في علاقتهم بالله وخاصة الإبن الأصغر.

أصيب هذا الرجل بمتاعب صحية أدَّت إلى وفاته، وكان ذلك في السبعينات من القرن العشرين، فحزنت الأسرة عليه. وبعد إتمام الصلوات ومراسم الدفن، عاد أبناؤه إلى بيتهم، ورافقهم الأب الكاهن الذي كان يشفق عليهم ويساندهم بمحبته وأبوته.

جلس الكاهن في بيتهم، وأخذ يعزيهم بكلمات روحية، واستمع الإبنان الكبيران الشابان باهتمام إلى كلام أبونا، وكذلك الإبن الأصغر الذي كان قد بلغ في هذا الوقت سن الثالثة عشرة من عمره، وتعزَّت قلوبهم بكلام الأب الكاهن، الذي كان أبًأ روحيًا للأسرة، بل شعروا في أبوته تعويضًا عن أبيهم الراحل.

سأل الإبن الأكبر الكاهن قائلاً: ماذا نفعل في الميراث وكيف نقسمه؟ فسأله أبونا: ماذا ترك لكم أبوكم؟ فردَّ عليه: إن ثروة أبي تبلغ حوالي سبعين ألف جنيه. فقال الكاهن: يمكن تقسيمها عليكم بالتساوي. وهنا قال الإبن الأوسط: أنا أفكر في شئ، فقال له الكاهن: ماذا تريد؟ فقال له: لماذا تقسيم الميراث الآن؟ فلنكمل تجارة أبينا ونستثمر هذا المبلغ فيعطينا مكاسب أكبر لأن اسم أبي معروف في السوق وتجارته ناجحة.

أجاب الكاهن وقال: فكرة مفيدة إذا كنتم متفقين عليها، ويمكن أن تكتبوا هذا الكلام وتوقعوا عليه، وأنا شاهد على اتفاقكم هذا. فأجاب الأخوان الكبيران بموافقتهما واستعدادهما أن يكتبا كل شئ ويوقعا عليه. وقال الكاهن وأنا أيضًا سأوقع معكم كشاهد.

استوقفهم الإبن الثالث الصغير وقال: ليه يا أبونا نكتب ورق؟ إحنا كلنا اخوات وبنحب بعض، ووالدنا علمنا المحبة وماكنش بيفرق بيننا. ومادمنا كلنا بنحب المسيح إحنا واحد ومانكتبش حاجة، وإخوتي يشتغلوا في التجارة ولما أكبر أشاركهم في العمل بعد ما أخلص دراستي. وافق الأخان الكبيران على هذا، ووافق أيضًا الكاهن مُعجَبًا بهذه المحبة وهذه الثقة.

مرَّت السنوات وعمل الأخوان الكبيران في التجارة، وازدادت واتسعت التجارة على أيديهما، وحققت مكاسب كبيرة. وأيضًا كان الإبن الصغير ناجحًا في دراسته، حتى أنهى الدراسة الثانوية ودخل الجامعة.

بعد مرور حوالي ست سنوات من انتقال والد هؤلاء الإخوة، فكر الأخوان الكبيران في الزواج، وبدأت محبة المال تجذب عقليهما وقلبيهما، وشعرا أنهما قد تعبا في تكوين واستثمار ثروة أبيهما، وبالتالي لهما الحق الأكبر في أموال هذه التجارة. واستمرت أفكار محبة المال تزداد معهما حتى شعرا أنه ينبغي أن يعرف كل منهما حقه في هذه التجارة، فجلسا ليتفاهما في كيفية تقسيم التجارة التي يعملان بها، وهل يُدخِلان أخيهما الصغير أم لا؟ وقال أحدهما يمكن أن نعطيه نسبة قليلة، فردَّ الآخر لماذا نعطيه وهو لم يتعب معنا في شئ؟ وبعد حوار طويل اتفقا على تقسيم الثروة إلى قسمين، وفي نفس الوقت ينبغي على أخيهما الأصغر أن يعمل ويُكَوِّن نفسه، وإن احتاج يمكن أن يفكرا في مساعدته أو يعمل عندهما ليتعلم، ولكن ينبغي التقسيم الآن حتى يعرف كلٍ منهما حقه ويبدأ كلٍ منهما الاستقرار المادي بمعرفة حقوقه وواجباته قبل الزواج. وانتهى الأمر بتقسيم التجارة إلى قسمين، ورتَّبا الأوراق الرسمية وأخذ كلٍ منهما نصيبه. ولم يعرف الأخ الأصغر أي شئ عن هذا التقسيم.

مرَّت السنوات وتخرَّج الإبن الأصغر من الجامعة، ففرح وشكر الله على نعمته، ثم ذهب إلى أخويه ليعرف نصيبه في تجارة أبيه وكيف سيعمل ويستثمر نصيبه؟ هل بالعمل مع أخويه أم يأخذ نصيبه ويعمل وحده؟ ففوجئ بإجابة أخويه إذ قالا له ليس لك أي نصيب لأننا نحن اللذين عملا في هذه التجارة، أما نصيبك فقد أنفقناه عليك في تعليمك وكل احتياجاتك حتى تخرجت من الجامعة.

كانت صدمة عنيفة على الإبن الأصغر، وحاول مناقشة أخويه فلم يفلح، فجلس جانبًا وكان يبكي بشدة، أما أخواه فتركاه وأهملاه بكل قسوة. وتواردت الأفكار داخل فكر هذا الشاب: كيف يأخذ حقه؟ كيف يستعين بالكاهن كشاهد ويطالب رسميًا نصيبه في ميراث أبيه؟ واضطرب جدًا وقرر أن يقابل الكاهن ليطلعه على هذه المصيبة ويأخذ رأيه ويستعين به.

ذهب الإبن الأصغر وقابل الكاهن وروى له كل ما حدث ودموعه تسبقه وتقطع كلماته، وكان متوترًا جدًا فاستمع إليه الكاهن باهتمام وشجَّعه، وأكد له حقه في ميراث أبيه، ووعده ألا يتخلى عنه، لأنه شاهد على الاتفاق الذي تمَّ بعد موت أبيه مباشرة. وبعد أن طمأنه استأذن من الشاب أن ينهي كلامه مع بعض الذين ينتظرونه، وسيذهب بنفسه إلى أخويه للتفاهم في هذا الأمر.

جلس الشاب الصغير وحده في الكنيسة ينتظر الكاهن، وكانت الكنيسة هادئة ليس فيها صلوات طقسية، ورفع عينيه نحو الهيكل فنظر الصليب مرتفعًا وعليه المسيح مخلصنا، فبدأ الشاب يشتكي للمسيح ويقول له: ماذا أفعل؟ لقد اغتصب إخوتي نصيبي، أخذا كل شئ ويرفضان أن يعطونني أي جزء من ميراث أبي. وانسابت الدموع غزيرة وطأطأ رأسه إلى الأرض، ثم رفع عينيه ثانية ونظر إلى المسيح وبدأ يشعر بهدوء يدب في قلبه بعد صلوات كثيرة، بل رن صوت في داخله شعر أنه صوت المسيح يقول له: أنا اتنازلت عن كل حاجة علشان خاطرك وخاطر كل ولادي، أنا اتصلبت علشانكو كلكم … عشان أشتريكم … أنا بِعت نفسي ومُت علشان تعيشوا.

وصمت الشاب، وامتلأ قلبه بالسلام، ثم قال للمسيح بصوت في داخله لم يسمعه أحد: حاضر يارب أنا هاعمل زيك … أنا مش ها اخسر إخوتي عشان الفلوس، أنا هاشتريهم. هاتنازل عن نصيبي مش هاطالب بحاجة. إخوتي أغلى من الفلوس. إذا كنت إنت يا رب شُفتِني أنا وكل ولادك غاليين عندك واتصلبت عشانَّا … أقل حاجة أموت أنا عن الفلوس علشان خاطر أشتري إخوتي، وبكده أشتري أغلى حاجة، أشتري السما اللي هاتدوم لي لأن الأرض فانية وكل الفلوس هاتروح.

ظلـت عينيَّ هذا الشـاب المبـارك متعلقة بالمسيـح المصـلوب، ولم ينتبه إلا ويـد الكاهن فـوق كتفـه وصوته الحنون يقول له: ياللا يا ابني نروح لإخوتك. قام الشاب وقال للكاهن بهدوء: خلاص يا أبونا ما تتعبش نفسك، أنا مش عايز حاجة. خليهم ياخدوا الفلوس كلها. أنا هاشتري إخوتي واشتري السما. مش عايز حاجة.

حاول الكاهن أن يتفاهم مع الشاب لعله يكون في انفعال مؤقت، ولكن الشاب أكد له أنه مستريح تمامًا لهذا القرار. وطلب من الكاهن أن يجلس معه قليلاً، وجلس الشاب بين يدي أبيه ليعترف بخطاياه، معلنًا أن أفكارًا شريرة كثيرة قد راودته، وغضب وإدانة لإخوته، واعترف بكل ما في داخله ليتنقى قلبه تمامًا. فشجعه الكاهن وقال له إنك بهذا قد اخترت النصيب الصالح والله لابد أن يعوضك، وقرأ له الحِل بغفران خطاياه، فمضى الشاب في هدوء وسلام.

عاد الشاب إلى منزله، وأخبر إخوته أنه لا يطالبهما بشئ، واعتذر عن غضبه في مناقشته معهما.

دخل الشاب إلى حجرته ووقف للصلاة، وكانت صلاة عميقة جدًا ملأت قلبه بالفرح أكثر من أي صلاة في حياته السابقة.

نام الشاب هادئًا في هذه الليلة، وذهب في الصباح الباكر إلى القداس وقابل أبونا فأخذه جانبًا، وكان وجه الشاب ممتلئ بالفرح، وقال للكاهن إن محبة الله تفوق عقلي، سأخبرك ماذا حدث معي في هذه الليلة، لقد حلمت بأمي العذراء مريم أتت إليَّ وقالت لي: “كلامك يا ابني اتسجِّل في السما، وابني وافق على طلبتك إنك تشتري السما بنصيبك من ميراث أبيك، وفرحان بمحبتك لإخوتك، وهايديلك نصيبك السماوي اللي مش ممكن لا سوس ولا صدأ يقرب منه، ولا حد يسرقه منك. روح بكرة اتناول عشان بعد كده تاخد نصيبك السماوي”.

فرح الكاهن، وشجع إبنه وصلى له، وفهم عظمة هذا الإبن وأنه اقترب من الملكوت.

بعد أن حضر القداس وتناول الشاب من الأسرار المقدسة عاد فرِحًا إلى بيته ورقد على سريره وانطلقت روحه إلى السماء، لينال نصيبه السماوي، لقد اشترى السماء واشترى إخوته.

كتاب: الاعتراف يجددني فكيف أعترف؟

اية للحفظ

  • “إغفر لقريبك ظلمه لك فإذا تضرعت تمحى خطاياك” (سي28: 2)