“تاتيانا جوريشيفا” طُرِدت من الإتحاد السوفيتي سنة 1980. وقد نشرت عدة مقالات وكتاب مبنية على خبرتها في روسيا. هي واحدة من مؤسسي الحركة النسائية في ليننجراد، وتمثل العدد المتزايد من الشباب الروسي المثقف الذين يعودون إلى أصولهم الروحية في الكنيسة. هذه المقالة نشرتها لها مجلة كونتاكت الفرنسية سنة 1984.
إن عدونا الأكبر في روسيا هو الخوف. فإن لم تكن خائفًا في الداخل، فإنك تكون حرًا ومستعدًا لكل شىء. ففي كنيستنا في روسيا كل شيء ممنوع، فبعد القداس تُغلَق الكنائس ولا تستطيع أن تتكلم عن الله خارج الكنيسة، ولا يمكنك أن تحصل على الكتاب المقدس، ولا تستطيع أن تعطي تعليمًا مسيحيًا للنشء بدون أن تعرض نفسك للسجن 25 عامًا.
أنا شخصيًا لم أكن أبحث عن الله ولا أي واحد من أصدقائي فعل ذلك، بل أن الله هو الذي دعانا فوجدنا. فالروح القدس سلك الطريق الوحيد المتبقي لكي يجدنا، إذ أن كل الطرق البشرية كانت مغلقة. لقد عمل الله وحده من خلال الصلاة.
فلقد وُلِدت من عائلة سوفيتية عادية وهي عائلة ملحدة تمامًا. منذ طفولتي لم أسمع إسم الله يُذكَر بالمرة. كان هذا في عصر حكم خروشوف. كان الله ميتًا في نظري، والإله الجديد لم يظهر لي بعد. وأثناء دراستي للفلسفة في روسيا لم ألتقي بماركسي واحد. فالناس هناك تجاوزوا الايدولوجية الماركسية وهم يهتمون بالفلسفة الغربية. ونحن كنا ميالين خاصة لفلسفة “كامو وسارتر”، أي فلسفة المعاناة والموت والعدم. كانت حياتنا حياة عدم كلي، لا ندري من أين أتينا، وليس لنا هدف نسير نحوه. كنا نعيش في صحراء: فالأخلاق، والدين، بل والحياة الطبيعية لم تعد موجودة في روسيا.
كثيرون من أصدقائي انتهى بهم الأمر إلى المصحات العقلية، وآخرين مثلي قد اُنقِذُوا. فقد حدث بينما كنت أمارس رياضة اليوجا أني اكتشفت صلاة ” أبانا”. أنا لم أكن قد قرأت الكتاب المقدس بالمرة ولم يحدث أني دخلت كنيسة من قبل. وبدأت استعمل صلاة “أبانا” بطريقة ميكانيكية تمامًا، كنت أرددها بدون أن أؤمن بالله. بعد ذلك حدث إعلان الله لي كمحبة في حياتي وذهبت إلى الكنيسة.
توجد أديرة في روسيا ولكنها قليلة العدد. فالأديرة في روسيا تعتبر المراكز الحقيقية الوحيدة للحياة الروحية والثقافية في البلاد: فالناس يذهبون هناك فقط للصلاة. القداس يستمر بين ثلاث وخمس ساعات، ولكن لا أحد يشعر بمضي الوقت. في أثناء القداس الإهمال أو الاستهتار مرفوض، فيجب أن تقف منتصبًا تمامًا. وهكذا تكتشف منابع أكيدة للقوة في نفسك.
في ذلك العالم الذي اضطُهِدنا فيه وعانينا، كانت صلوات رهبان هذه الأديرة هي ينبوع لحياتنا. فالصراع الروحي هو أقوى أنواع الصراع في هذا العالم. الصلاة تعطيك طاقة جبارة وقوة عظيمة، وشيوخ الرهبان الذين يلقبون ب “ستاريتزي” هم الذين يشهدون شهادة كاملة للحياة في الله. وحينما تقابل “ستاريتز” مرة واحدة في حياتك، فأنت ترغب أن تتبعه وأن تصير مثله. وهناك إثنان منهم خاصة قد طبعا أثرهما عليَّ: وهما الأب يوحنا والأب هادريان. فالأب يوحنا يشبه القديس سيرافيم الصاروفي شبهًا كبيرًا. ألوف من الناس يأتون إلى الدير لكي يروه. أما الأب هادريان فهو أكثر شدة في نسكه وعنده موهبة إخراج الأرواح الشريرة. كثيرون من الناس الذين عليهم أرواح نجسة يأتون إلى الأديرة من كل أنحاء روسيا.
أنشأنا معهدًا سريًا وبدأنا البحث عن أب روحي يتولى قيادة حركتنا النسائية من بين الكثير من الكهنة الذين كانوا خائفين مننا بالرغم من أنهم كانوا مسرورين برؤيتنا ونحن نجيء إلى الكنيسة، إلا أن كلاً منهم كان يفضل أن يرانا نذهب إلى كنيسة أخرى غير كنيسته، ومع هذا حصلنا على كاهن.
وحركة “المثقفين” التي كان يغلب عليها في القرن التاسع عشر طابع الفلسفة المادية قد صارت الآن مسيحية. وأصبحت موضة الفكر اليوم غالبًا هي أن تكون مسيحيًا. أصبحت المسيحية الآن تنتقل كالعدوى من واحد للآخر. والناس هنا يشترون الكتب الإلحادية لكي يقرأوا الاقتباسات الموجودة فيها من الأناجيل، ويزورون المتاحف لكي يصلوا أمام الأيقونات ويتأملوا فيها. وبينما يُلقَى إثنين من المسيحيين في السجن يخرج أربعة. فالروح القدس يحول كل شىء نحو المسيحية. وكثيرون من الشعراء والرسامين والروائيين والمفكرين كانوا يجتمعون في شقتنا ذات الغرف الثلاث وكنا نناقش مشاكل المسيحية ونقرأ كتب المتصوفين الأرثوذكس والكاثوليك. والصلاة قد أصبحت أكثر ضرورة لنا من الهواء الذي نستنشقه.
ونحاول في معهدنا أن نساعد الناس حولنا على تغيير حياتهم. فالرحلة طويلة وشاقة بالنسبة لكل مسيحي لأن المعاناة في الاتحاد السوفيتى عظيمة جدًا. فقد زرنا بعض المصحات العقلية، وهى أردأ حالاً من السجون الروسية. فالناس فيها يُقتَلون بواسطة العقاقير. ومن المستحيل أن تكتشف إن كان هؤلاء الناس مرضى قبل دخولهم المصحات أم أنهم صاروا مرضى نتيجة دخولهم. وفي إحدى المصحات العقلية وجدنا مسيحيين من كل الطوائف. كانوا جميعهم مرضى ما عدا كاهن راهب كان له 8 سنين هناك. لقد كان محطمًا تمامًا بواسطة العقاقير، حتى أنه لم يعد يستطيع الجلوس. ومع ذلك كان ذهنه صاحيًا ورجاؤه قويًا. لقد قال لنا “صلاة القلب سلاح قوى”.
حدث مرة أنه في أكثر شوارع ليننجراد ازدحامًا، فبينما أنا سائرة أمسك بي رجلان ضخمان قويان وبدءا يضرباني. وما هو أردأ من ألم الضربات كان اكتشافي أني كنت أصرخ. فلم اكن مستعدة بالمرة لهذا الهجوم المفاجىء. ومع ذلك لم يقترب مني أحد لينقذني، فكان اختبارًا مفزعًا من العزلة التامة. والمرأة الوحيدة التي حاولت أن تقترب مني دفعوها بعيدًا بعنف. ورغم أني لم أكن جبانة بطبيعتي إلا أن الخوف امتلكني وشلني.
ومرة أخرى في طريقي إلى البيت في ضواحي المدينة بدأ بعض رجال المباحث يتبعونني. ومرة أخرى شللت من الخوف وخجلت من نفسي رغم أني كنت أقول لنفسي كثيرًا: “إنهم لا يستطيعون أن يهلكوا نفسِك بل فقط يستطيعون إيذاء جسدِك”. ومع ذلك ظل الخوف يتملكني. وعندئذ بدأت أصلي وأردد صلاة يسوع. فجأة منح لي أن أرى إعلان لوجه الرب يسوع وهو واقف أمام محاكميه، كان وجهه هادئًا وصامتًا وكان حيًا جدًا حتى اختفى الخوف مني. فالصلاة غلبت الخوف.
إذا أردت أن تكون مخلصًا وتقول “لا” للمجتمع، و “لا” للكذب، فلابد أن تكون مستعد أن تفقد كل شىء: العمل، العائلة، الأصدقاء، والحياة. بالرغم من ذلك، فكونك مسيحيًا هذا يعني الفرح والطمأنينة الداخلية بعمل الروح القدس فيك. فإن الله يحب أولاده ويقف بجانبهم في كل شىء وفي كل وقت. ولذلك فأنه أحيانًا أن يكون المرء مسيحيًا وفاقدًا لكل شىء أرضي فيجب عليه أن يعلم جيدًا أنه لم يفقد أباه السماوي الذي يحبه.
السلام: الكتاب الشهري لبيت التكريس.
اية للحفظ
✝ “لا تخف بل تكلم ولا تسكت. لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك” (أع18: 9)