أنا هنا في نيويورك

كانا شابين زملاء في الدراسة في إحدى كليات جامعة الإسكندرية، وقد تآلفت روحاهما بمحبة إنجيلية صادقة، وكانا يكثران من الصوم والصلاة وكانا يخدمان الرب خدمة متواضعة لكن بأمانة وفرح. وكانا يواظبان على حضور إجتماع الشباب بكنيسة مارجرجس باسبورتنج، دائمي الاعتراف والتقرب إلى الأسرار الإلهية.

فلما أكملا دراستهما إفترقا بسبب ظروف العمل، وكانا يتقابلان كلما أتيحت لهما فرصة اللقاء، ربما مرة كل سنة. وهكذا إذ دخلا إلى الحياة العملية وانشغلا بمتطلباتها، صار لقاؤهما على فترات متباعدة.

ثم سافر أحدهما إلى خارج البلاد في بداية أيام الهجرة عام 1969م، واندمج في المجتمع الجديد لعله يحقق نجاحًا في هذه البلاد الجديدة، ولم يكن هناك كنيسة ولا مصريون مسيحيونكان هذا في أواخر الستينات في القرن الماضي. كانت هناك عقبات كثيرة: اللغة، الغربة، عدم وجود كنيسةوهكذا تحت هذه الضغوط وبمرور السنين صار يبرد قليلاً إلى أن انتهى إلى حياة غير مرضية، والتصق بزميلة له في العمل، ثم تصاحبا وانتهت الحياة إلى انحدار في خطاياوقد ضعفت الأصوام فليس من مشجع حتى غابت من الحياة، وفترت الصلواتوأصبحت وقفة قصيرة بجوار الفراش يتلو فيهاأبانا الذيبذهن شارد وبرودة أصابت القلب.

قضى هذا الأخ في هذه الحالة سنوات طالت إلى 12 سنة وهو في نزول مستمر من سئ إلى أسوأ. وقد انقطعت أخبار هذا الأخ إلى سنوات، وإن كان هناك اتصال فهو دائمًا يقول أنا بخير دون تفاصيل.

وصلت إلى صديقه إشاعات عن سيرته وحياته في بلاد الغربة. لم يصدق!! فما يعرفه عن صديقه هو حصيلة أيام الصبا والشباب، سنوات طويلة كانا فيها يتمتعان بعشرة المسيح إلى أقصى ما يستطيع الإنسانفالمسيح هو الحياة كلها، شاغل البال والفكر ومحور الكلام والصمت والغاية والوسيلة في آن واحدفلم يكونا يعرفان شيئًا سوى يسوع المسيح وإياه مصلوبًا، وبه وفيه كل الحياة، ومن خلاله يعرفان كل إنسان ويحكمان في كل شئ، فكيف تنزلق المسالك هكذا؟! وكيف تستساغ الخطية كمنهج أو حياة؟! أين رصيد الصلوات والأصوام وخدمة الفقراء والاحتمال من أجل يسوع؟! هل كل هذا الرصيد يضيع؟حاشا

ظل هذا الأخ يستطلع الأخبار من كل جهة ويحاول خلال أصدقاء وأقارب من أمريكا لعلهم يصلون إليه، أو يعملون معه عملاً. وبدأت حركة النعمة، أليس هو أخي في المسيح وشريك جهادي، فكيف أتركه هكذا؟! كانت أفكارًا مقدسة تدفعه للخدمة والبذل، وحبًا شديدًا نحو نفس تكاد تهلك جوعًا في الكورة البعيدة.

فلما زاد دفع النعمة، تحرك في شجاعة: ترك عمله، ترك زوجته وولديه، واستخرج جواز سفر وحصل على تأشيرة، وسافر بغير تأخير. وفي يوم سفره إتصل بقريب له في ولاية أخرى، فاستقبله ومن هناك اتصل بصديق عمره.

فوجئ الأخ بالمكالمة! وسأل: أين أنت؟! … أجاب: أنا قريب منك جدًا. تحركت مشاعر محبة روحية قديمة، وأشرق شعاع داخل سراديب الظلام، وهتف قائلاً: “قريب مني فين؟

  • أجاب صديقه: أنا في نيويورك.

  • مش معقول أنا مش مصدق!! … في نيويورك؟! سأحضر عندك غدًا.

  • لا بل أنا سأجئ وأقيم عندك، تذكرتي معي وسأراك بنعمة المسيح بعد يومين.

وقد كانسافر إليه، واستقبله بعناق روحي يصعب التعبير عنه، وسُكِبت دموع ودموع. إستصحبه إلى بيته، وكان قد أعد البيت أن يكون كما يليقبيت صلاة. لقد تخلص بغير رجعة من كل الماضي كما في لحظة واحدة، وكأن الماضي بكل ما فيه لا يمت له بصلة.

أشرقت الشمس، وبدد النور الظلامكم سعدا بوقفات الصلاة الطويلة ومزامير نصف الليل. لقد أحضر له صديقه إنجيلاً وإبصلمودية وسنكسار وبعض الكتب الروحية القديمة التي طالما تمتعا بها سويًا. وقد لاحظ الأخ أن صديقه لم يذهب إلى العمل يومًا وإثنين وثلاثة حتى كمل الأسبوع. فقال له: لماذا لا تذهب إلى عملك؟

  • أجاب: يا أخي لقد تركت عملي يوم حضرت إليَّ لأن عملي كله عثرات، وقد تأثرت بها كثيرًا فوددت أن أقطع صلتي بكل الماضي.

  • ولكن هل ستظل بلا عمل؟

  • لاأنا أثق أن المسيح سيرزقني عملاً أفضل. 

وقد كان في ذات الأسبوع ففرح بالتدبير الإلهي. 

سأل الأخ: ألا توجد كنيسة قريبة منك هنا؟ أجاب: الحق أنني منذ سنوات لم أفكر في هذا الأمر، ولكن توجد كنيسة على بعد ساعتين أو يزيد. قال صديقه: ألا تصطحبني لنذهب؟ وفعلاً ذهبا سويًا يوم السبت وهناك تقابلا مع الكاهن الذي يخدم هذه الكنيسة، قابلهما بفرح شديد، فقد سمع كثيرًا عن هذا الأخ وعبثًا حاول أن يقربه من الكنيسة.

طلب الأخ أن يجلس مع أبونا، فجلس وقد طالت الجلسة إلى ساعتين أو يزيد، وكان بكاؤه يُسمَع من بعيد، لقد اغتسل بدموع غزيرة في توبة صادقة، وفي الصباح تقرَّب من الأسرار.

مكث الصديق في زيارة أخيه عدة أسابيع كانت كأنها أيام السماء على الأرض، شبعا فيها من العشرة الحقيقية مع الله، وتنعما بالفرح والعزاء والتسبيح والصلاة. وفي معرض الحديث قال الأخ لصديقه: أنا أشير عليك أنك تنزل إلى مصر لتبحث لك عن شريكة لحياتك تكون إنسانة متدينة تقية تعينك على احتمال مشاق الحياة والغربة هنا. وفوجئ الأخ بالإجابة: لقد نذرت باقي أيامي للحياة بالمسيح، وعوض الخطايا التي إنزلقت إليها سأحيا مجاهدًا لضبط نفسي وجسدي وروحي.

  • قال الأخ: ولكن هذا الجهاد صعب عليك، ولعلك تضعف فترجع إلى وراء. 

  • أجــاب صديقه: أنـا لا أثـق فـي نفسـي، ولكني أثـق في نعمـة المسيـح المخلصة التي تعين الضعفاء.

    تعاهدا على الصلاة لأجل بعض والاتصال الدائم، وسافر الأخ إلى مصر وهو يمجد الله على عمله وحبه. وكان بعد أن عاد إلى مصر يتلقى خطابًا من صديقه كل أسبوع ملؤه الفرح والعزاء الروحي، وكان الكاهن يفتقده من حين إلى آخر فيجده متهللاً بالروح، مواظبًا على الصلاة بلا فتور. وقد زاد على ذلك إذ باع منزله واستأجر شقة صغيرة لسكناه، وكان يرسل مبالغ كبيرة لصديق عمره لتوزيعها على الخدمة التي كانا يخدمانها معًا من عائلات مستورة ومرضى لا يعرفهم أحد.

    ظل الأخ على عهده في الصلاة وأعمال الرحمة، وكانت حياته غاية في السعادة حتى كل من يراه يجده متهللاً.

    وفي يوم على غير توقع وهو في طريقه إلى عمله دهمت سيارته سيارة نقل كبيرةصدمته من الخلف فارتطم رأسه بالزجاج الأمامي للسيارة، فلما جاء رجال الإسعاف وأخرجوه من سيارته فإذا هو قد فارق الحياة.

    لقد كمل الله له نذره الذي نذر، فعاش طاهرًا ناسكًا تائبًا، ومات وهو في حال الصلاة، إذ كان يتمتع بسماع القداس الإلهي وهو في سيارته في طريقه إلى العمل، وظل الكاسيت في السيارة يذيع باقي القداس إذ لم يتحطم بالحادث. وسأل رجال الإسعاف أي لغة هذه؟ كان من بينهم رجل لبناني فقال: هذا شريط صلاة القداس باللغة العربية. أخرج الأخ اللبناني الشريط واحتفظ به حتى سلمه للكاهن مع باقي المتعلقات الشخصية التي وجدوها.

    نُقِل الخبر إلى الكاهن الذي كرَّس أيامًا هو وبعض الخدام لعمل اللازم نحو هذا الباروجدوا وصية كتب فيها أنه حال وفاته يُدفن جسده في مصر بجوار والدته، وكان وصول جسده يوم عيد مارمينا العجائبي.

    رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين: ج 5.