أنت تشفق على الجميع
انتشر وباء الكورونا في بلدتنا كما انتشر في سائر البلاد … لكن القرارات التي اتخذتها حكومتنا اتسمت بالصرامة وامتدت لعدة سنوات. لقد فقد الكثير من أصحاب الصناعات الصغيرة أشغالهم، وتوقفت وسائل المواصلات لشهور طويلة … أُغلِقَت المطاعم والكثير من المحال التجارية … أُغلِقَت المدارس والجامعات تمامًا لأكثر من عامين … كانت الدراسة تتم عن بُعد فقط لِمَن يتيسر لهم الاشتراك في شبكة الإنترنت!! لقد مُنِع الأطفال من سن الثامنة عشر فما دون عن الخروج من منازلهم خِشية إصابتهم بالعدوى! كانت الأجواء كئيبة ومظلمة، كمن دخل إلى نفق مظلم لا تظهر نهايته!! ولكن الله حوَّل ظلمتي إلى نهار … وكآبتي إلى أفراح بنعمته الفائقة.
نشأت في أسرة فقيرة، تخَبَّطنا بين كنائس عديدة ولكنها لم تكن كنائس رسولية، فلم ننل سر المعمودية المقدس، كما لم تكن هذه الكنائس رعوية، فنشأنا نعرف بعض المعلومات الدينية، ولكنها امتزجت بالكثير من العادات والثقافات المجتمعية التي كانت لها جذور فيما يتعلق بالسحر المنتشر في بلادنا. لم أستطع إكمال دراستي الثانوية لقِصَر ذات اليد … كما تخبطت في أكثر من علاقة لم تنته بالزواج، إلا أنني أصبحت أمًا لأطفال!
تعرفت على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عندما بدأت أعمل في أحد الملاجئ التابعة للكنيسة في بلادنا … كنت أعجب كثيرًا بالخدام الأقباط الذين كرَّسوا حياتهم للعمل لأجل إنقاذ أطفالنا … تركوا بلادهم وأسرهم وموضع راحتهم … يتعبون ويبذلون أنفسهم بكل الحب والفرح لأجل شعوب غريبة … لَفَت انتباهي اهتمامهم الشديد بالنمو المتكامل للأطفال، ليس فقط على المستوى الدراسي والاجتماعي، بل بالأحرى على المستوى الروحي والخَدَمي … يبنون نفوسًا حطمها الشر ويقيمون منها هياكل مقدسة لله.
كنت أعمل كل أيام الأسبوع وكان لي يوم عطلة أسبوعي هو يوم الأحد، إعتدت فيه مع جيراني أن نقضيه في احتساء الخمور والغناء مع الرقص الشعبي، فقد كانت هذه هي وسيلة الترفيه بعد أسبوع شاق من العمل.
عندما انتشر وباء الكورونا وتوقفت وسائل المواصلات، أصبحت أُقِيم في الملجأ كل أيام الأسبوع وأعود إلى منزلي يوم الأجازة فقط وأنا أقود دراجتي لعدة ساعات للعودة إلى منزلي … وكنت أحيانًا أخرى أعود إلى بيتي مرة كل أسبوعين. تضايقت في البداية بعض الشئ لكني لم أكن أدري أن الله كان يرتبها كفرصة ذهبية وخبرة متميزة في حياتي.
لاحظت كيف اهتم الأب الكاهن المنتدب من الكنيسة القبطية لرعاية الملجأ على رعاية الأطفال بكل اهتمام … فإنه لما تَعَذَّر خروج الأطفال من المكان طبقًا للقواعد المتبعة من الحكومة، كانت تقام العشيات والقداسات داخل أسوار الملجأ، فانتظم الأطفال في ممارسة الأسرار المقدسة. لقد تحول البيت إلى كنيسة، وزادت جلسات الالتفاف حول الكلمة المقدسة المعزية والمصحوبة بالشرح المبسط … كانت هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها الصلوات الليتورجية، فجذبتني روحانية الصلاة وأبهرتني المفاهيم العميقة لكلمة الله المُشبِعة … فهمت معنى يوم الرب … وكيف أقيم علاقة شخصية يومية مع الرب يسوع.
فيما بعد كلما كنت أعود إلى بيتي في أيام الآحاد كنت لا أشعر بالراحة لقضاء اليوم كما اعتدته … لقد أصبحت أُفَضِّل الاستماع إلى الترانيم الروحية وقراءة الكتاب المقدس. كان هذا تصرف غريب لم يعهده جيراني، بدأوا يسخرون مني ويتندرون … كان كلامهم مُوجِع لكنه لم يثنيني عن قراري، بل بالعكس بدأت أحاول أن أنقل لهم ما تعلمته على يد الأب الكاهن، لكنهم لم يعطوني آذانًا صاغية، واستمروا في انتقادي … لكني قررت الصلاة لأجلهم ليُمتِّعهم الرب بما أتمتع به ويفتح قلوبهم لمعرفته.
بعد مدة من الزمان اضطررت أن أقيم في الملجأ لمدة شهر كامل بسبب زيادة انتشار الوباء … فوجئت عندها بإحدى جاراتي تتصل بي للاطمئنان عليَّ وتُعَبِّر عن اشتياقها لرؤيتي، وتخبرني بأمر عجيب جدًا!! في فترة غيابي بدأ الجيران يتدربون شيئًا فشيئًا على تغيير شكل يوم الأحد ليصبح يوم الرب!! لقد دأبوا على تحويل التجمعات لأجل الغناء والشرب إلى الصلوات والهدوء!! إبتهل قلبي بالشكر الجزيل … وازداد شوقي للانضمام إلى الكنيسة القبطية وبدأت أطلب من الأب الكاهن ذلك … وبعد فترة من التلمذة على يديه جاء اليوم المنشود … إذ نلت فيه سر المعمودية المقدس وتناولت من الأسرار المقدسة واستنارت أعماقي.
العجيب أنه في اليوم التالي دعاني أبي الكاهن لتبدأ خدمة جديدة لكنيستنا القبطية في منطقة سكني … أصبح كل أحد هو يوم عيد لي ولجيراني أيضًا … يحضر الخدام القداس الإلهي صباحًا ثم ينطلقون بسيارة أجرة خاصة إلينا … البعض منهم يقيم مدارس الأحد لأطفالنا والبعض الآخر يجتمع بمجموعة وسط العائلات لدرس الكتاب المقدس … لقد تغير شكل منطقتنا، وتعالت أصوات تسبيح رب المجد عِوَض تسويف العمر باطلاً … إختلف مفهوم الفرح والراحة ليكون مقدسًا في الرب وقلبيًا.
سفراء عن المسيح: ج5. مذكرات كرازية وقت الكورونا: ج2.
اية للحفظ
✝ “وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ” (رو8: 28)