اغمسي الشاش في دمي
عاش هذ االشاب وأحب الكنيسة، وواظب على صلواتها والتحق بالخدمة، وكان خادمًا باذلاً تميز بين إخوته الخدام بالمحبة والتضحية فكان يتعب كثيرًا في الخدمة ويفكر دائمًا في احتياجات من يخدمهم.
قامت الحرب العالمية الثانية، وانضم هذا الشاب إلى أحد جيوش الحلفاء، وكانت الحرب عنيفة بين الألمان والحلفاء، واضطر الحلفاء إلى التراجع أمام قسوة وعنف الألمان، بعد أن أصيب عدد كبير من الجنود.
وفي إحدى المدن التي تراجع إليها الحلفاء لم يجدوا مستشفى، فدخلوا مبنى البلدية الذي لم يكن فيه استعدادات، ونام الجنود على الأرض، وحاول رجال ونساء الصليب الأحمر إسعافهم بكل ما استطاعوا.
كان أحد الجنود، وهو الشاب الذي تحدثنا عنه في البداية الذي كان مرتبطًا بالكنيسة والخدمة، نائمًا على الأرض بجوار الباب، وكانت حالته خطيرة وينزف دماء كثيرة أي كان يقترب من الموت.
قال هذا الشاب للممرضة التي تهتم بعلاجه:
-
“هل تظنين أن الألمان سيلقون قنابلهم على هذا المبنى؟”
-
فطمأنته بكلماتها الطيبة وقالت له: “خذ هذا الدواء والله سيحافظ علينا”.
-
قال الشاب: “لو رأوا على المبنى راية الصليب الأحمر سيتركوه بحسب قوانين الحرب”.
-
قالت له الممرضة: “لا تنشغل بهذا بل اهدأ حتى تتحسن حالتك”.
-
فقال لها:” أنا لا يهمني نفسي الآن لأني أعرف إني قريب من الموت، والمسيح الذي آمنت به وأحببته ينتظرني ليعطيني حياة أفضل، ولكني أفكر في إخوتي الجرحى الراقدين حولي”. ثم قال لها: “أسرعي وابحثي هل هناك فوق المبنى مكان لتعليق راية”؟
-
فذهبت وعادت مسرعة وأجابته: “إن هناك مكان لرفع العلم”.
-
فقال لها: “أسرعي خذي الملاءة التي أنام عليها واغمسي الشاش في دمي وارسمي صليبًا أحمر كبيرًا على هذه الملاءة وعلقيها فوق المبنى”.
فأطاعته الممرضة وعلَّقَت الراية التي تعلن أن هذا المبنى تابع للصليب الأحمر، وعندما عادت إلى الجندي وجدته قد فارق الحياة.
وبالفعل هجمت طائرات الألمان وضربت مباني كثيرة في هذه المدينة إلا مبنى البلدية الذي ارتفعت فوقه راية الصليب الأحمر، ونجا كل الجرحى من الموت المؤكد.
ما أجمل أن تفكر في غيرك لتنقذه من مشاكله وتنسى نفسك. إنك بهذا تشبه المسيح الذي صُلِب عنا ليفدينا، يموت هو لنحيا نحن.
إن الصليب هو الراية التي تحمي المؤمنين وتقدم لهم الخلاص، فتَمَسَّك بالصليب، وارشم ذاتك به عند كل مواجهة أو خطر، وثق أنه يحميك وينقذك من متاعب كثيرة.
تدبيرك فاق العقول: الجزء الثامن.
الرئيس الشهيد
كان غبريال بن نجاح (يوحنا أبو نجاح الكبير) من عظماء القبط في القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد، وكان كبير الكُتاب المباشرين في عصره كما كان مقدّم الأراخنة القبط في عهد الحاكم بأمر اللَّه الخليفة الفاطمي، وكان هذا الشيخ (الرئيس) الكبير يعاصر البابا فيلوثاؤس البطريرك 63.
كان يوحنا هذا مسيحيًا تقيًا وبارًا محسنًا ومحبًا للكنيسة، وغيورًا على الإيمان الأرثوذكسي. ولما انتهي الحاكم بأمر اللَّه الخليفة الفاطمي (996 – 1020م)، الذي اتسمت تصرفاته بالشذوذ والتطرف من إفناء خاصته ومقدّمي جيشه عاد إلى الأراخنة ورؤساء الكُتاب فأخذ منهم عشرة وعرض عليهم الإسلام، وكان يوحنا أبو نجاح الكبير رئيس المقدّمين على رأسهم.
طلب إليه الحاكم أن يعتنق الإسلام ليجعله وزيرًا، فطلب من الخليفة أن يمهله يومًا يفكر فيه، ولم يكن طلبه مهلة اليوم للتفكير بل للاتصال بإخوته وحثهم على الثبات في الإيمان والموت على اسم المسيح. وحينما اجتمع بهم قال لهم: “الآن يا اخوتي لا تطلبوا هذا المجد الفاني فتضيّعوا مجد السيد المسيح الدائم الباقي، فقد أشبع نفوسنا من خيرات الأرض، وهوذا برحمته قد دعانا إلى ملكوت السموات، فقوّوا قلوبكم”.
كان من أثر كلامه الذهبي المملوء حكمة أن تقوّت قلوب سامعيه أجمعين، وثبتوا على أن يموتوا على اسم السيد المسيح.
لما كان بالغداة مضى يوحنا إلى الحاكم بأمر اللَّه فقال له الخليفة: “يا نجاح أترى هل طابـت نفسـك؟” أجابـه يوحنـا قائـلاً: “نعـم”. قال الخليفـة: “على أي قضية؟” قال يوحنا بشجاعة وثبات: “بقائي على ديني”.
إجتهد الحاكم بكل أنواع الترغيب والترهيب أن يحوله عن الإيمان المسيحي إلى الإسلام، فذهبت كلها أدراج الريح. فكان يوحنا كالصخرة لا يتزعزع، وثبت متمسكًا بالإيمان المسيحي، ولم يقوَ الحاكم مع ما أوتي من قوة أن يخلعه من دين آبائه.
لما فشل الحاكم أمام يوحنا أمر بنزع ثيابه عنه وأن يشد في الهنبازين ويُضرب. ضربوه خمسمائة سوط على ذلك الجسم الناعم حتى انتثر لحمه. وكانت السياط المستعملة في الضرب مصنوعة من عروق البقر، لا يقوى الجبابرة على احتمال سوط منها على أجسامهم. ثم أمر أن يضرب إلى تمام الألف سوط. فلما ضرب ثلاثمائة أخرى قال مثل سيده: “أنا عطشان”. فأوقفوا عنه الضرب وأعلموا الحاكم بذلك فقال: “اسقوه بعد أن تقوّلوا له أن يرجع عن دينه ويعتنق الإسلام”. فلما جاءوا إليه بالماء وقالوا له ما أمر به الخليفة، أجابهم يوحنا بكل إباء وشمم قائلاً: “أعيدوا له ماءه، فإني غير محتاج إليه، لأن سيدي يسوع المسيح قد سقاني وأطفأ ظمأي”. وذكر شهود عيان أنهم أبصروا ماءً يتساقط من لحيته، ولما قال هذا أسلم الروح. أعلموا الخليفة الجبار بوفاته فأمر أن يُضرب وهو جثة هامدة حتى تمام الألف سوط!! وهكذا تمت شهادته ونال الإكليل المُعد له من الملك المسيح.
ويذكر المقريزى في خططه أن استشهاده كان في 8 جمادى الآخر سنة 393هـ الموافق 19 برمودة سنة 719م، 14 إبريل سنة 1003م.
قاموس آباء الكنيسة وقديسيها.
اية للحفظ
-
“ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة. قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحدٌ” (أش63: 2-3)