يسوع للعالم الشيوعي

لما دخلت الجيوش السوفيتية رومانيا سنة 1944، دعت الحكومة كهنة الكنيسة وقادتها ورعاتها في مبنى البرلمان، فحضر ما يربو على 4000 كاهن وراعٍ. وأقبل واحد وراء الآخر يقدمون كلمات الثناء والمديح في الشيوعية ويُعلِنون ولائهم لنظام الحكم الجديد. وكانت تقاريرهم عن الوحدة والدعاية للشيوعية تُذاع على الهواء مباشرة بالراديو في كل أنحاء العالم من مبنى البرلمان.

بدأت تتوالى الكلمات وكانت كلها مديحًا فجًا ومُرعبًا، فقد كانت الشيوعية تهدف إلى تحطيم الدين، كما حدث في روسيا حينذاك. ومع ذلك فقد وقف الأساقفة وقادة الكنائس ليُعلِنوا أن الشيوعية والمسيحية متفقتان في المبادئ، ومن الممكن أن يتعايشا معًا. وهكذا، بسبب الخوف، تنكَّر هؤلاء الذين كانوا يُدعَون رجال الله لإيمانهم، وملأوا الدنيا بكلام النفاق والكذب. وكانوا بذلك كما لو أنهم يبصقون على وجه يسوع المسيح.

لم تستطِع “سابينا فيرمبراند” زوجة الراعي “ريتشارد فيرمبراند” التي كانت بين الحاضرين، أن تحتمل هذا النفاق. فهمست في أذن زوجها قائلة: “ريتشارد، قف واغسل هذا العار من على وجه المسيح”. وكان ريتشارد يعلم ما يمكن أن يحدث، فقال لها: “لو تكلمت فإنكِ ستفقدين زوجِك”. فأجابته قائلة: “أنا لا أرغب في أن يكون لي زوج جبان”.

فتقدَّم الراعي ريتشارد واعتلى المنصة، ولدهشة الجميع بدأ يعظ، وفي الحال ساد سكون عظيم في القاعة كلها: “أيها السادة النوَّاب وكل الحاضرين، إنه من واجبنا لا أن نمتدح السلطات الأرضية التي تجئ وتذهب، بل أن نمجد الله الخالق والمسيح المخلص، الذي مات على الصليب لأجلنا”.

وفي الحال قفز ضابط شيوعي عند أقدام الراعي، فكيف يمكن أن يحدث هذا الأمر ويسكت عليه؟! فهوذا كل الدولة بل والعالم يسمع رسالة المسيح مُذاعة على الهواء من قاعة البرلمان الشيوعي! فصاح في وجهه قائلاً: “إن حقَّك في الكلام قد سُحِب منك”.

أما ريتشارد فقد تجاهله واستمر في كلامه. وبدأ الجو العام للاجتماع يتغير تمامًا، فقد أخذ جميع الحاضرين في التصفيق، فقد كان يقول ما كانوا جميعهم يريدون أن يقولوه ولكنهم كانوا خائفين. أما الضابط فأخذ يجأر بصوتٍ عالٍ: “افصلوا الميكروفون”!

فصرخ الجمهور في وجهه قائلين: “نريد الراعي! نريد الراعي!”. وبدأوا يرنمون بصوتٍ واحد، وظل الصراخ والتصفيق الحاد مستمرًا بعد أن فُصِل الميكروفون وقُطِعت أسلاكه، ونزل ريتشارد من على المنبر، وأُنهِيَ الاجتماع في ذلك اليوم. أما ريتشارد فقد صار منذ ذلك الوقت شخصية مرموقة. إلا انه في يوم الأحد الموافق 29 فبراير 1948، بينما كان ريتشارد في طريقه إلى الكنيسة، تمَّ القبض عليه بواسطة جماعة من البوليس السري. وقد أَخبَر ريتشارد فيما بعد بِما جرى له:

أخذوني إلى سجن على بُعد 30 مترًا تحت الأرض حيث سُجِنت في حجرة سجنًا انفراديًا. ولعدة سنين حُجِزت وحيدًا في زنزانة. لم أكن أرى قط الشمس أو القمر أو النجوم أو الزهور. كما لم أكن أرى قط إنسانًا سوى الذين كانوا يستجوبونني ويعذبونني. ولم يكن لديَّ كتاب ولا قصاصة ورق، حتى أنه بعد مرور سنين كثيرة من الزمن كدتُ أنسى الكتابة، وأصبح من العسير عليَّ أن أفرِّق بين الحروف الأبجدية. ولكي يجعلوا إحساسي بالوحدة أشد قساوة، فقد جعلوا السجن محاطًا بسكون عميق حتى أن الحراس كانوا يلبسون نوعًا من الأحذية التي لا يُسمَع لها صوت.

وعندما وضعونا (هو وآخرون) في البداية في حبس انفرادي، كان الأمر يبدو كما لو أنهم قد حكموا علينا بالموت، فقد كان كل واحد منا يعيش مُتذكِّرًا خطاياه الماضية وما أهمله من واجبات روحية. وهكذا عانينا جميعًا من آلام لا يمكن تصورها، فقد انتابنا شعور عميق من الندامة والألم في قلوبنا متفكرين في ذواتنا أننا قد قصَّرنا في حق إلهنا الذي بذل حياته من أجلنا. ثم فجًاة بدأت تبرق حولي حوائط السجن متلألئة كالجواهر. لقد رأيت في الماضي أشياء كثيرة رائعة الجمال، ولكني لم أرَ قط مثل هذا الجمال العجيب الذي رأيته في هذه الزنزانة المُظلمة، ولم أسمع قط مثل هذه الموسيقى المبهرة التي سمعتها ذاك اليوم.

إن يسوع ملك الملوك كان معنا، لقد رأينا تدابيره وعينيه المملوءتين حبًا. لقد كفكف دموعنا وأشاع في قلوبنا كلمات الحب وكلمات الغفران، وعرَّفنا أن كل ما كان رديئًا في حياتنا قد انتهى وصفح عنه الرب، وصار في طيِّ النسيان. والآن، وقد مرَّت بنا أيام عجيبة، فقد صرنا في حضن المسيح ولم نعد نشعر أننا في السجن، بل كنا أحيانًا عندما نُضرَب ونُعَذَّب، نشعر كما لو كنا مثل القديس اسطفانوس الذي كان وهم يرجمونه بالحجارة، لا يرى قاتليه ولا الحجارة، وإنما السماء المفتوحة ويسوع قائمًا عن يمين الآب.

وهكذا نحن أيضًا، لم نَعُد نرى مُعَذِبينا من الشيوعيين، ولم نَعُد نحس أننا في سجن. فقد كنا مُحاطين بالملائكة إذ كنا مع الله. ولم يعُد إيماننا بالله والمسيح والملائكة مستمدًا من آيات الإنجيل، بل من اختبارنا الشخصي الذي نعيشه كل يوم.

وبعد سنوات من السجن الانفرادي، وُضِعنا معًا في حجرات تضم بين 200 إلى 300 سجين في كل حجرة. ولن أقدر أن أصف لكم الحقيقة كلها لأنكم لن تستطيعوا احتمالها. فقد كان المساجين المسيحيون يُضرَبون ثم يُعَلَّقون مربوطين فوق صلبان لمدة أربعة أيام وأربع ليالٍ بدون انقطاع. وكان الشيوعيون يقفون حولهم ويستهزئون ويسخرون منهم. ثم كانوا يركلون المساجين الآخرين ويُجبِرونهم على الركوع والسجود لعبادة هذه الصلبان الحيَّة المُلطَّخة.

أما أقسى الأوقات التي مررتُ بها فقد كانت أوقات غسيل العقول. ولا يمكن لأحد لم يختبر هذا الأمر أن يتصوَّر مدى العذاب الذي يجلبه غسيل العقول للإنسان. فمن الخامسة صباحًا حتى العاشرة مساءً، كان علينا أن نجلس باستقامة، وكان محرمًا علينا أن نتكئ أو نحني رؤوسنا، ولا أن نغلق جفون عيوننا. وطوال ال 17 ساعة كنا نسمع كل اليوم: “الشيوعية صالحة، الشيوعية نافعة، الشيوعية صالحة … المسيحية حماقة، المسيحية حماقة … لا أحد يؤمن بالمسيح بعد، لا أحد يؤمن بالمسيح بعد … استسلم، استسلم …”. وكان علينا أن نصغي إلى هذه الأكاذيب لأيام وأسابيع وشهور.

وفي النهاية، جاء ما هو الأردأ. فقد كان الشيوعيون يُعذِّبون أولئك الذين يؤمنون بالله. وكانوا يستخدمون في تعذيبهم أسياخ الحديد المُحمَى بالنار، والهرَّاوات المطاطية، والعِصِي، وكل وسائل التعذيب المتنوعة، لكي يتفننوا بواسطتها في تعذيب المسيحيين.

وعندئذ كانت تحدث المعجزة، فعندما يصل التعذيب إلى الذروة، وعندما نعاني من الاضطهاد أقساه مما لم نذقه من قبل، حينذاك نبدأ نتذوق حب أولئك الذين يُعذِّبوننا، فكنا كلما نُعَذَّب ويُستهزأ بنا، نزداد شفقةً ونفيض حبًا لمُعَذِّبينا.

كثيرون سألوا ريتشارد فيرمبراند متعجبين: “كيف تحب إنسانًا يقوم بتعذيبك”؟ فكان يجيب قائلاً: “حينما أنظر إليهم ليس كما هم عليه، بل كما سيكونون فيما بعد. فقد صار في استطاعتي أن أرى في مُعَذِّبينا شاول الطرسوسي الذي صار فيما بعد بولس الرسول. فهناك ضباط كثيرون من البوليس السري من الذين شهدنا لهم بالمسيح، فصاروا مسيحيين وصاروا سعداء لكونهم سُجِنوا مثلنا لأنهم تعرَّفوا على مسيحنا!”

فإنه في السجن وجدنا الرجاء في الخلاص لهؤلاء الشيوعيين، فهناك تفجَّر في داخلنا الشعور بالمسئولية من نحوهم، وتولَّدت فينا فكرة الكرازة بالمسيحية للشيوعيين، وكنا نسأل أنفسنا: “ماذا نفعل لكي نربح هؤلاء للمسيح؟ إن أبواب السماء ليست مغلقة في وجوههم، ولا النور قد غاب عن عيونهم. ففي استطاعتهم أن يتوبوا مثل أي إنسان آخر، وعلينا أن ندعوهم للتوبة. فالمحبة وحدها هي القادرة أن تُغيِّر الشيوعي والإرهابي”. ولكن علينا أن نصلي من أجلهم.

عندما أُفرِج عن الراعي فيرمبراند سنة 1956 استأنف خدمته في الكنيسة التي كانت تحت الأرض. وفي سنة 1959 أُعيد اعتقاله مرة أخرى، ثم أُفرِج عنه ثانية في سنة 1964 واستأنف خدمته مرة أخرى. وفي عام 1965 دفع بعض أصدقاءه فدية للحكومة الرومانية قدرها عشرة آلاف دولار، من أجل أن تتمكن أسرة فيرمبراند من الهجرة من البلاد، فسافروا إلى الدول الاسنكدنافية ومنها إلى انجلترا ثم الولايات المتحدة. وفي سنة 1967 بدأت خدمتهم للشيوعيين تحت اسم “يسوع للعالم الشيوعي”. واستمرت خدمتهم حتى سقطت الشيوعية في عام 1992، وانتصر النور على الظلمة والحب على البغضة.

طعام الأقوياء.

اية للحفظ

“لا تتعجبوا يا إخوتي إن كان العالم يبغضكم” (1يو3: 13)

Jesus to the Communist World

When the Soviet armies entered Romania in 1944, the government invited the priests, church leaders, and shepherds to the Parliament building, where over 4,000 priests and pastors attended. One after another, they offered words of praise and admiration for communism and declared their allegiance to the new regime. Their reports on unity and propaganda for communism were broadcast live on the radio from the Parliament building to all corners of the world.

The speeches continued, all of them crudely praising and terrifying, as communism aimed to destroy religion, as had happened in Russia at that time. Yet, bishops and church leaders stood up to declare that communism and Christianity agreed in principles and can coexist. Thus, out of fear, those who were called men of God denied their faith and filled the world with hypocrisy and lies, as if they were spitting in the face of our Lord Jesus Christ.

Sabina Wurmbrand, the wife of Pastor Richard Wurmbrand who was among the attendees, could not bear this hypocrisy. She whispered in her husband’s ear, saying, “Richard, stand up and wash this shame off the face of Christ.” Richard knew what could happen, saying to her, “If I speak up, you will lose your husband.” She replied, “I do not want a coward for a husband.”

Pastor Richard stepped forward and ascended the podium, and to everyone’s surprise, he began to preach. Suddenly, a great silence fell over the entire hall: “Ladies and gentlemen, members of parliament, and all attendees, it is our duty not to praise the earthly authorities that come and go, but to glorify God the Creator and Christ the Savior, who died on the cross for us.”

Immediately, a communist officer jumped at the pastor’s feet. How could this happen without being silenced?! The entire country, even the world, was hearing the message of Christ broadcast live on the air from the communist Parliament Hall! The officer shouted in Pastor Richard’s face, saying, “Your privilege to speak has been withdrawn.”

But Richard ignored him and continued speaking. The general atmosphere of the meeting changed completely, as all attendees began to applaud, saying what they all wanted to say but were afraid to. The officer yelled, “Turn off the microphone!”

The crowd shouted back, “We want the pastor! We want the pastor!” They began to chant in unison, and the screaming and applause continued even after the microphone was disconnected and its wires cut. Richard descended from the podium, and the meeting ended for that day. Since then, Richard became a distinguished figure. However, on Sunday, February 29, 1948, as Richard was on his way to church, he was arrested by a group from the secret police. Richard later recounted what happened to him:

They took me to a prison 30 meters underground, where I was held in solitary confinement. For several years, I was detained alone in a cell. I never saw the sun, the moon, the stars, nor flowers. I never saw any human being except those who interrogated and tortured me. I had no book or even a piece of paper, to the point that after many years, I almost forgot how to write and found it difficult to distinguish between the letters of the alphabet. To make my sense of isolation more severe, the prison was surrounded by deep silence; even the guards wore a type of shoe that made no sound.

When we (I and others) were initially placed in solitary confinement, it seemed as if we had been sentenced to death, as each of us lived remembering our past sins and what we had neglected of spiritual duties. Thus, we all suffered unimaginable pain, feeling deep regret and pain in our hearts, pondering that we had fallen short in our duty to our God who gave His life for us. Then suddenly, the prison walls around me shone, sparkling like jewels. I had seen many beautiful things in the past, but I had never seen such wondrous beauty as I saw in that dark cell, nor had I ever heard such mesmerizing music as I heard that day.

Jesus, the King of Kings, was with us. We saw His providence and His eyes filled with love. He wiped our tears and spread words of love and forgiveness in our hearts, teaching us that everything bad in our lives had ended and was forgiven by the Lord, and now forgotten. Now, after experiencing wondrous days, we were in the embrace of Christ, and we no longer felt that we were in prison. Sometimes, when we were beaten and tortured, we felt as if we were like Saint Stephen, who, while being stoned, did not see his killers or the stones, but the open heavens and Jesus standing at the right hand of the Father.

Thus, we no longer saw our communist torturers, and we no longer felt that we were in prison. We were surrounded by angels as we were with God. Our faith in God, Christ, and the angels was no longer derived from the verses of the Gospel, but from our personal experience that we live every day.

After years of solitary confinement, we were placed together in rooms that housed between 200 to 300 prisoners in each room. I cannot describe the entire truth to you because you would not be able to bear it. The Christian prisoners were beaten, then hung tied up on crosses for four straight days and nights. The communists stood around them mocking and ridiculing them. Then they would kick the other prisoners and force them to kneel and worship these living, blood-stained crosses.

The most difficult times I experienced were the times of brainwashing. If you haven’t gone through this experience, you can’t imagine the torture that brainwashing brings to a person. From five in the morning until ten at night, we had to sit up straight, and it was forbidden for us to lean or bend our heads or to close our eyelids. Throughout the 17 hours, we heard all day: “Communism is good, communism is beneficial, communism is good… Christianity is foolishness, Christianity is foolishness… No one believes in Christ anymore, no one believes in Christ anymore… Surrender, surrender…” We had to listen to these lies for days, weeks, and months.

In the end, the worst came. The communists tortured those who believed in God. They used in their torture red-hot iron rods, rubber clubs, sticks, and all sorts of torture devices, to refine their art of torturing Christians.

Then the miracle happened, for when the torture reached its peak, and when we suffered from persecution harsher than we had ever experienced before, then we began to taste love for those who tortured us. As we were tortured and mocked, we grew more compassionate and overflowed with love for our torturers.

Many asked Richard Wurmbrand in amazement, “How can you love someone who is torturing you?” He would reply, saying, “When I look at them, not as they are, but as they will be later. I was able to see in our torturers Saul of Tarsus, who later became Paul the Apostle. There are many officers from the secret police to whom we witnessed about Christ, who became Christians and were happy to be imprisoned like us because they came to know our Christ!”

In prison, we found hope in the salvation of those communists, as a sense of responsibility towards them burst within us, and the idea of preaching Christianity to the communists was born. We asked ourselves, “What can we do to win these people for Christ? The doors of heaven are not closed in their faces, nor has the light disappeared from their eyes. They can repent like any other person, and we must call them to repentance. Love alone is capable of changing the communist and the terrorist.” But we must pray for them.

When Pastor Wurmbrand was released in 1956, he resumed his service in the underground church. In 1959, he was arrested again, then released again in 1964 and resumed his service once more. In 1965, some of his friends paid a ransom of ten thousand dollars to the Romanian government, allowing the Wurmbrand family to migrate from Romania. They traveled to the Scandinavian countries, then to England, and finally to the United States. In 1967, they began their service to the communists under the name “Jesus to the Communist World.” Their service continued until communism fell in 1992, and light triumphed over darkness, and love over hatred.

Food of the Strong.

A verse to memorize:

✝ “Do not marvel, my brethren, if the world hates you” (1 John 3:13).