آخرون يكونون أولين ! 

شاب مستهتر:

نشأ حبيب فرج في أسرة رقيقة الحال، كان عنيدًا وغمًا لوالديه، كرهه الجميع لأنه كان يسئ معاملة الكل. لما كبر وأخذ الشهادة الابتدائية كان نموذجًا للشاب المستهتر، وكان من يرى حبيب وهو في هذه الحال يحكم بلا جدال أنه أمام شيطان لا أمل في توبته وإصلاح حاله.

كان يفتقده خدام الشباب بكنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا على غير جدوى، ومن كثرة تردد الخدام عليه قال لأحدهم ذات مرة: “أنا سآتي هذه المرة، لكن إن لم يعجبني الحال سوف لا أذهب ولا أريد أحدًا منكم يفتقدني”.

ذهب إلى اجتماع الشبان وعملت نعمة اللَّه فيه، وحال سماعه كلمة اللَّه انسحق قلبه بالتوبة والندامة. ومنذ ذلك الوقت أخذ حبيب يواظب على الكنيسة مواظبة المحب الشغوف الذي يود لو أمكنه أن يتجرَّع الدين جرعة واحدة.

رؤيا إلهية:

زاده حبًا في اللَّه رؤيا أُعلنت له، إذ أبصر وكأنه بيد السيدة العذراء التي أرَته مكانًا مخيفًا يتعذب فيه ساكنوه، فلما سألها عنهم قالت: “إنهم الأشرار”. ثم أرَته قصرًا فخمًا نورانيًا عظيمًا وقالت: “هنا يتمتع الأبرار إلى أبد الآبدين”، وأرَته فيه كرسيًا بهيًا من نور أشد لمعانًا من ضوء الشمس، وقالت له: “إنه كرسيك وهو محفوظ لك إذا اتبعت يسوع”. استيقظ حبيب من حلمه وهو أشد اضطرامًا نحو السماء ومجدها، وكثيرًا ما سُمِع يصلي من أجل وصوله إلى السماء ليجلس فوق كرسيه المُعَد له.

عبادته:

كان أمينًا في صلوات المزامير السبع. فكان في الصباح يصلي باكر والثالثة، وبعد عودته من عمله وقبل الغداء يصلي السادسة والتاسعة، وقبل خروجه من منزله بعد الظهر كان يصلي الغروب والنوم، وقبل أن ينام يتلذذ بصلاة نصف الليل.

كان يمارس جميع أصوام الكنيسة إلى ساعة متأخرة جدًا، غالبًا إلى المساء، ومع أنه كان يجد اعتراضًا من والدته، لكن ذلك لم يضعف من عزمه. وقيل إنه كانت له أصوام خاصة يفرضها على نفسه أيام الإفطار (بإشراف أب اعترافه). وفي أصوامه كان يأكل مرة واحدة كل أربع وعشرين ساعة. وكان يمارس صوم يونان الثلاثة أيام كلها انقطاعًا، وصام في إحدى المرات أسبوعًا كاملاً، وقد فكر في أن يصوم الأربعين المقدسة دون طعامٍ مطلقًا لولا أن أب اعترافه انتهره.

كان محبًا للكنيسة، محبًا لألحانها يرددها على الدوام، وكان متمسكًا بتُراثها. وشهد عنه أب اعترافه كيف كان أمينًا في اعترافه، وكيف كان يستعد للتناول من الأسرار المقدسة. وكان يبكر في المجيء إلى الكنيسة، ويظل واقفًا في آخر الكنيسة طوال القداس، وكان ضميره لا يساعده على ترك الكنيسة قبل نهاية الخدمة.

كان يحب الخدمة في الأحياء الفقيرة بين البسطاء، وأسس فروعًا للخدمة في أماكن صعبة. كان ينهال عليه الصبية بالحجارة، ومع ذلك كان دائمًا فرحًا، كما كان مواظبًا على افتقاد من يخدمهم فردًا فردًا.

نظرًا لالتصاق حبيب بمحبة الكنيسة وعدم مغادرتها في أيام الآحاد حتى تنتهي الخدمة، كان يتأخر عن الموعد المصرح به في العمل وهو العاشرة صباحًا، خاصة في أيام الصوم الكبير. رُفِع الأمر إلى رئيسه فاستحضره وكان يهدده. وفي ليلة اعتزم رئيسه أن يؤذيه فأتاه من أفزعه في منامه بأن لا يمس حبيب بسوءٍ، فنادى المدير حبيب في الصباح وأظهر له كل عطفٍ وحنانٍ.

بتوليته:

إشتاق حبيب أن يعيش بتولاً. أراد مرة أن يلتحق بدير المحرق وكان معه صديقه. لكن رئيس الدير رفض قبولهما إلا بموافقة والديهما، وأعطاهما بعض النقود أوْصلتهما إلى المنيا، لكنهما كانا يريدان أن يعودا إلى القاهرة ولم يكن معهما نقود. قصدا أوتوبيس وسألا الكمساري أن يأخذهما مجانًا فسخر منهما، صليا إلى اللَّه فأرسل لهما صديقًا بسيارته أخذهما معه إلى القاهرة.

عرض عليه والداه الزواج فأبى، وألحّا عليه كثيرًا، وأحالا عليه أصدقاءه وبعض الكهنة ليقنعوه بالزواج فلم يقبل. انتهز والده فرصة وجود أحد الآباء الأساقفة، وهو المتنيح الأنبا باسيليوس أسقف إسنا والأقصر وأسوان، وكان قديسًا ورعًا، فشكاه له. وأمام إلحاح الوالد ودموعه عرض عليه الأب الأسقف الزواج فأطاع على شرط أن يعيش مع زوجته كأخٍ وأختٍ. فرح الجميع لموافقته، واختاروا له إحدى الفتيات ووزعوا المرطبات والحلوى، لكنه قال للحاضرين ما فُهِم منه أن هذا الزواج لن يتم، ولم يمضِ أسبوع حتى توفيت العروس. فخجل الجميع أن يفاتحوه في هذا الشأن لأنهم أيقنوا أنها إرادة اللَّه.

نياحته:

عرف وقت نياحته وأخبر كثيرين بذلك، وأوصى أخاه بطاعة والديه.

ذهب إلى الترزي ليفصِّل حلة فقال له: “إن شاء اللَّه هذه حلة الزفاف”، فأجابه حبيب قائلاً إنها الحلة التي سينتقل بها من العالم. فنهره الواقفون أما هو فقال لهم بلهجة الواثق: “سوف ترون، وفي هذا الأسبوع”، وتم ذلك حرفيًا، بل قيل أنه كتب بخط يده في مفكرة الجيب يوم نياحته والساعة.

قضى ساعاته الأخيرة في ترنيم وتسبيح وصلوات ودعاء واستغاثة وطلب شفاعة القديسين، وظل هكذا حتى أسلم روحه الطاهرة. والعجيب أنهم لما غسَّلوا جسده فإذا به مرسوم بصلبان واضحة، وكانت نياحته في سنة 1941م.

من كتاب: قاموس آباء الكنيسة وقديسيها

اية للحفظ

“من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة” (يو5: 24)