الاستشهاد كرازة

في إحدى دول الشرق الأقصى، حيث يكون مظهر الكاهن القبطي غير مألوف: الجلباب الأسود مع اللحية، تجعلهم يفكرون في أنه ينتمي لديانات أخرى غير المسيحية، لكن عندما يدققون في الصليب على صدره يطمئنون أنه مسيحي. بعض المثقفين منهم قد يتقدموا للسؤال: هل أنت كاهن أرثوذكسي؟ عادة ما يفكرون أنه قد يتبع الكنيسة الروسية أو اليونانية، لكن معظمهم لا يعرفون الكنيسة القبطية.

بينما كان كاهن الكنيسة القبطية في هذه البلد يقوم بشراء بعض الاحتياجات من أحد المحال التجارية، إقترب منه أحد سكان البلد وبادره بالسؤال: “أنت كاهن قبطي أرثوذكسيأليس كذلك؟ 

تعجب الكاهن لمعرفة الرجل بالكنيسة، وسأله: كيف عرفت ذلك؟

فأجاب الرجل: “أنا أعرف هذه الكنيسة جيدًالقد سمعت عن الواحد والعشرين شهيدًا من الشباب الأقباط الذين اسشتدوا في ليبيا” … واستطرد قائلاً: “هل لكم كنيسة هنا في بلدنا؟

تكررت مثل هذه المواقف مع هذا الأب في أكثر من مكان في هذه البلد البعيدة، حتى أن أحدهم راسل الأب الكاهن على أحد مواقع التواصل الاجتماعي وسأله: “هل أنت كاهن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هنا؟وعندما أجابه بالإيجاب ردَّ فائلاً: “أخيرًا وصلتم إلى بلادنا؟! لقد انتظرناكم طويلاً” … ثم استطرد قائلاً: “لقد سمعت عن الاضطهادات التي أصابت كنيستكم كثيرًا عندما كنت أدرس في كليتي منذ عشرات السنين، ولكني منذ بضعة سنوات سمعت بأمر الواحد والعشرين شهيدًا، وتمنيت الانضمام إلى هذه الكنيسة الثابتة القوية التي مازال شبابها متمسكين بإيمانهم بكل قوة“.

حقًأ إن كرازة هؤلاء الشباب قد فاحت رائحتها العطرة لتجذب نفوسًا كثيرة إلى الإيمان في كل مكان في العالمربما حصدوا نفوسًا للملكوت بعد موتهم أكثر من حياتهمفي وسط عالم ابتعد عن معرفة الله الحي وصار الشباب ينجرفون وراء كل تيار جديد كقصبة في مهب الريح. سطع بهاء قوة هؤلاء الشباب المحب للسيد المسيح في تمسكهم بإيمانهم حتى النفس الأخيروشهادة لكنيستهم القبطية التي لازالت تلد شهداءًا إلى يومنا هذا.

أذكر أيضًا يوم استشهاد شهداء ليبيا، وكنت وقتها أقيم في أحد بيوت الخدمة التابع لإحدى الكنائس غير الأرثوذكسية هناكفعندما سَمِعت الخبر تألمت جدًا وكنت غاضبًا جدًالماذا يا ربي كل هذا الظلم الواقع على هؤلاء الشباب الطيبين والعُزَّل؟ لماذا يظهر الشر قويًا والحق ضعيفًا؟ 

كان عليَّ في ذلك اليوم أن ألقي كلمة عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في إحدى المدارسلك أكن قد استجمعت أفكاري بعد عما سأتحدث به إلى الطلاب، ولكني كنت قد عاهدت الله أني لن أرفض أي خدمة تُطلَب مني حتى لو لم أكن مستعدًأ لها.

في البداية عندما نزلت من غرفتي فوجئت بالعاملين في البيت يقدمون لي التعازي عن استشهاد الأبطال المصريينفبادرتهم بالسؤال: “كيف عرفتم بهذا الخبر؟أجابوني: “لقد تم نشر الخبر في الجريدة الرسمية!!” طلبت نسخة من هذه الجريدة وأرشدني الرب أن آخذ الجريدة معي إلى المدرسةوأن يكون هذا الخبر هو بداية حديثي مع الطلاب عن عظمة كنيستنا القبطية. وبالفعل كان يومًا مفرحًا ومثمرًا جدًا، وقد أجاب الرب عن كل حيرتي وهدَّأ من غضبي وأزال ألمي، وقد أدركت أن دماء الشهداء بذار الكنيسة ليس في مصر فقط بل في العالم أجمع.

وعندما عدت بالجريدة تم وضع الخبر في لوحة الإعلانات الخاصة بالبيت!! وقد صارت سيرة الشهداء العطرة صنارة تجتذب الكثير من الناس المترددين على المكان، وتحصد نفوسًا إلى حضن الآب، وكنت في كل مرة أنال بركة خدمة الكلمة هناك أختبر ضعفي الشديد وقوة الله العجيبة

سفراء عن المسيح: ج 3. اشتياقات الله.

البستاني الشهيد

كان سيريناس يونانيًا بالمولد، وترك كل ما له ليخدم اللَّه في حياة الوحدة والبتولية. ذهب بهذه النية إلى سيرميام Sirmium (يوغوسلافيا الآن) واشترى بستانًا وقام بزراعته وكان يعيش على الفاكهة والخضروات التي ينتجها.

عندما ثار الاضطهاد ضد المسيحيين اختبأ عدة شهور، ولكنه عاد إلى بستانه. وفي أحد الأيام وجد امرأة تتمشى في بستانه، فسألها بحرجٍ عما تفعله في ملكية رجل متوحد مثله، فأجابته بأنها تستمتع بالمشي في هذا البستان على وجه الخصوص، فرد عليها بحسمٍ وهو مصمم ألا يسمح لها بالبقاء إذ أدرك أنها إنما أتت إليه بنية غير سليمة: “إنه وقت القيلولة ومن غير المناسب لسيدة في مركزِك أو وقارِك أن تمشي في هذا الوقت غير اللائق الذي لا يخرج أو يتمشى فيه إنسان محترم“. 

إذ سمعت السيدة هذا التوبيخ هاجت وكتبت في الحال لزوجها الذي كان من ضمن حـراس الإمبراطـور ماكسيميـان، واشتكـت لـه بـأن سيريناس قد أهانها، فذهب زوجها إلى الإمبراطور طالبًا العدل قائلاً: “بينما نقوم نحن بخدمتك والسهر على سلامتك تتعرض زوجاتنا للإهانة بعيدًا في بلادنا“. أعطاه الإمبراطور خطابًا إلى حاكم المقاطعة لكي ينصفه.

استدعى الحاكم سيريناس وسأله: “كيف تكون من الوقاحة حتى تهين زوجة الضابط في بستانك؟تعجب سيريناس ورد قائلاً: “حسب علمي إني لا أتذكر أنني أهنت أية سيدة، ولكني فقط أتذكر أن سيدة أتت إلى البستان في وقت غير مناسبٍ وقالت أنها جاءت لتتمشى، فقلت لها أنه لا يليق لامرأة في مركزها أن تأتي وتتمشى بالخارج في مثل هذه الساعة“.

هذا الدفاع جعل الضابط نفسه ينظر إلى الموضوع بوجهة نظر مختلفة، إذ أدرك أن سيريناس بريء بينما زوجته هي المخطئة ولذلك سحب دعواه على البستاني.

لكن كلام سيريناس أثار شكوك الحاكم، إذ علم أن إنسانًا بمثل هذا التدقيق لابد أن يكون مسيحيًا، فسأله عن ديانته فأجاب القديس بحسم: “أنا مسيحي، ولما سأله إن كان يقدم القرابين للآلهة أجاب سيريناس: “أشكر اللَّه الذي حفظني حتى هذا الوقت، لقد بدا لي أن اللَّه قد رفضني لكوني حجر غير صالح في بنائه، ولكني أرى الآن أنه يدعوني لكي يكون لي مكان فيه. وإني مستعد أن أتألم من أجله، فربما يكون لي مكان في مملكته مع قديسيه“. أجابه الحاكم بدهشة: “حيث أنك حاولت التهرب من قرارات الملك ورفضت أن تضحي للآلهة، فإنك تموت بقطع رأسك“.

فعلاً قام بتنفيذ الحكم واستشهد القديس سيريناس سنة 302م.

قاموس آباء الكنيسة وقديسيها.