رأيته في صحراء مصر

جلس في اتضاع عجيب رغم تقدمه في العمر، فقد بلغ الآن أواخر العقد الخامس من العمر، يغلب على ملامحه اختلاط ما بين العرقين الصيني والهندي، قليل الكلام، مُبتَسِم بهدوء ولطف ودائمًا لديه شغف عجيب للمعرفة ولكن بروح التلمذة … فالخطورة تكمُن في خلو شغف المعرفة من روح التلمذة … فهذا الرجل رغم ما لديه من خبرات كثيرة في الحياة، ولكنه لم يفقد هذه الروح … فهو لا يخجل أن يسأل ليتعلم من الجميع على الرغم من أنه قد يسأل مَن هو في عمر أبنائه … وقد كرَّس هذا الشخص حياته وحياة أسرته لخدمة رب المجد. وبدأ يروي لنا كيف أراه الله ذاته في مصر!!
بدأ يروي لنا تجربته واختباره الشخصي عن هذا اللقاء الذي لا يضاهيه أي اختبار أو لقاء. تحدث في مطلع حديثه عن خبراته الشخصية في الحياة وبالأخص أنه كان يبحث عن الإله الحقيقي طيلة حياته، فقد اعتنق العديد من الديانات الموجودة في هذا البلد الأسيوي: قضى سنوات من حياته هندوسيًا، وتارة راهبًا بوذيًا، وتارة أخرى بروتستانت كاريزماتيك. وكل هذه المحاولات للبحث عن الإله الحقيقي …
وقد تدرَّج في الدراسة والمعرفة في هذه الديانات وحتى في المسئوليات، إلى أن وصل أن يكون راعيًا لأحد الكنائس الكاريزماتيك ولهُ شعب يتبعه.
وذات يوم شاءت العناية الإلهية أن يتواصل مع خدام كنيستنا القبطية الذين يخدمون في هذه الدولة، وطلب من الخدام أن يتعرف عليهم ويعرف منهم أكثر عن كنيستنا القبطية صاحبة العراقة في إيمانها وقِدَمِها ودورها، وبالفعل استجاب الخدام لطلبه وتحدد مكان الزيارة في الكنيسة التي يقوم بخدمتها كراعي لها.
صلَّى الخدام ليتقدم الرب أمامهم ويبارك خطواتهم، وعندما وطأت أقدامهم هذه الكنيسة تملكتهم الدهشة الممزوجة بمشاعر لم يقدروا أن يحددوها في تلك اللحظة: إن كانت مشاعر استغراب واندهاش أم هي مشاعر فرح وكأنه قد ارتسم فوق رأس كلٍ منهم علامات كثيرة من التعجب والاستفهام!!؟؟
وتزاحمت الأفكار والأسئلة في أذهانهم، فقد رأوا ما لم يتوقعوا أن يروه في هذه البقعة من الأرض، إذ أنه عند دخولهم ذلك المكان وقعت أبصارهم على مِنضدة موضوعة أمامًا على شكل مكعب على مثال المذبح ومكانه في الكنيسة القبطية … وعندما جالوا بأبصارهم في المكان، وجدوا أن الحوائط مزينة بالعديد من صور القديسين (العذراء القديسة والدة الإله والأنبا أنطونيوس)، ومن الآباء المتنيحين في عصرنا الحديث قداسة البابا شنودة الثالث وأبونا متى المسكين!! وهذا على الرغم من عدم اعتراف هذه الطائفة بالقديسين وبالشفاعة التوسلية التي تؤمن بها كنيستنا القبطية مع الشفاعة الكفارية.
قرأ هذا الإنسان المُبارَك ملامح الدهشة والتعجب التي اعتلت وجوه الخدام ولمعت في أعينهم، واستشف أن لديهم العديد من الأسئلة، فبدأ يحاول أن يكشف لهم أستار الظلام التي غلَّفت أذهانهم من التعجب والاستفهام.
دعاهم للجلوس وقدَّم لهم ما يشربوه، وبدأ يروي بهم: أنه قام بزيارة مصر عدة مرات مارًا بها أثناء رحلاته لزيارة القدس، إذ أنه أثناء العودة يشمل برنامج الرحلة زيارة لبعض الأماكن الدينية المسيحية في مصر، فبدأ يُحضِر كتبًا لآباء الكنيسة ويقرأها. أُعجِب بهذا الإيمان العميق والبسيط في آنٍ واحد فبدأ يكون متابعًا جيدًا لكتابات الآباء، هذا الكنز الذي لم يجد له مثيل، فهو محفوظ ومُسلَّم من القرون الأولى.
ويستطرد حديثه في بساطته المعهودة، وقد عَلَت الابتسامة قسمات وجهه التي تنبض بفرحه القلبي … ليروي لنا أعظم خبرات حياته.
بدأت هذه الخبرة عندما تلقى دعوة لزيارة كنيستنا القبطية بعد أن تواصل مع بعض الخدام الأمناء وأعلن لهم رغبته في أن يستزيد من معرفته ومعايشته داخل الكنيسة، وقد أرشد الروح الخدام لدعوته لزيارة كنيستنا القبطية … وبالفعل بدأت رحلته للبحث عن الإله الحقيقي في صحراء مصر وبالتحديد في أحد أديرة الصحراء الشرقية، فقد طلب أن يُترَك فترة للخلوة في الدير … حيث قضى ما يقرب من شهر خلوة في هذا الدير، وأكمل زياراته في أديرة وادي النطرون.
واستطرد حديثه قائلاً: “وهناك رأيت الله في صحراء مصر …”
أخذ نفسًا عميقًا وأسند ظهره على الكرسي وأغمض عينيه متطلعًا إلى السماء كمن يسترجع موقف من ذاكرته ويرغب لو عاد مرة أخرى لمعاينة هذا الحدث بكل جوارحه وحواسه، وبعد لحظات قليلة من الصمت، ولكنها مرَّت على مَن كانوا يستمعون إليه كدهرٍ يريدون أن يعرفوا ما قد رأى في صحراء مصر !!!
وبدأ يوضح لنا أن هذا الإعلان قد بدأ عندما قضى فترة خلوته في صحراء مصر، فقد كانت له طلبة لدى الله ألا وهي أن يُظهِر له ذاته وأن يرشده إلى الطريق الحقيقي، وبالفعل أثناء فترة خلوته في أحد أديرة وادي النطرون وكان قد التزم بحضور الليتورجيات (الصلوات الجماعية مثل القداس والتسبحة)، وفي أحد الأيام وعند قيامه مبكرًا لحضور التسبحة والظلام باقٍ (ليس لأنها ساعة متقدمة من الصباح ولكن لأنه لم تأتِه الإجابة: هل أنت الإله الحقيقي؟؟؟) تقدم بخطواته الهادئة نحو الكنيسة الأثرية، وانحنى للدخول من بابها الصغير، واتخذ مكانه في الخورس المخصص للموعوظين، وصلى التسبحة وبعدها القداس … وفي هذا القداس أعلن الله له عن الإجابة!!
إستكـمل حديثـه فـي شـوقٍ ولهفـة قائـلاً أنـه عندمـا قـال الكاهـن فـي التقديـس: “هـذا الخبز يجعله جسدًا مقدسًا لهُ … وهذا المزيج الذي في الكأس دمًا كريمًا للعهد الجديد الذي له”، شعر بمخافة رهيبة لم يشعر بها طوال عمره وكأن زلزالاً عنيفًا قد دبَّ في جميع أركان جسده.
ويقول بالنص: “شعرت بحضور الله. كما لو كنت قد انتقلت بآلة الزمن إلى مشهد حضور الله لموسى النبي على جبل طور سيناء … وما زاد اندهاشي بالأكثر أنه عندما حان وقت التناول من الأسرار المقدسة انفتحت عينيَّ ورأيت الكنيسة مزدحمة ولكنهم ليسوا بشرًا مثلنا لكنهم أجسامًا نورانية إذ أن البشر الحاضرين كانوا معدودين، ولكنني رأيت ربوات ملائكية حاضرة حول هذا العرش الذي يحضر فيه المسيح بالحقيقة”.
ولكن … بعد أن أراه الله ذاته، كان لديه الاختبار الأصعب: هل يستطيع أن يترك ما لديه ويتبعه؟؟ فكما أوضحنا سابقًا فهو راعي حاليًا لإحدى الكنائس وله شعب يتبعه، فهل يستطيع؟؟!! فكثيرًا ما نسمع ولكن هل نستجيب للصوت؟
كان هذا السؤال يشغل بال كل القائمين على الخدمة في هذا البلد، فبعد هذه الزيارة وهذا اللقاء في صحراء مصر كان الجميع ينتظر انضمامه بسرعة وبقوة، ولكن عندما عاد لم يحدث ما كان يتوقعه الخدام، مما دفعنا إلى الحديث معه للسؤال عن السبب …
فعندما كان في فترة الخلوة في مصر سأل أسقف الدير: “يا أبي ماذا عليَّ أن أفعل؟” فقال له: “تترُك وتتبعه”. وهذا يعني أن يترك مركزه في الكنيسة التي يخدم بها … ولكنه بروح مسئولية الراعي قرر أن يحرم نفسه فترة إلى أن يُسَلِّم هذه الكنيسة لأحد الخدام بها وبعد أن يترك موقعه لآخر يستطيع أن ينضم للكنيسة، وذلك حتى لا تحدث بلبلة وأيضًا لكي يحتفظ بمحبتهم حتى يستطيع أن يكرز لهم عن الإيمان المستقيم. وهذا ما قد حدث بالفعل …

سفراء عن المسيح: ج 1. شيريتا: ج1.

اية للحفظ

✝  يَا رَبُّ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ (أع9: 6)