كلامك حلو يا رب
كانت أكبر أخواتها السبعة، ولم يكن هذا فخرًا أو ميزة لها بل على العكس كان هذا أحد أسباب ألمها الذي استمر معها حوالي تسعة عشر عامًا من عمرها. ولكن أستأذنك أيها القارئ العزيز قبل أن أسرد عليك تفاصيل قصتها بما فيها من ألم ولجاجة وعمل إعجازي لنعمة الله في حياتها، أن أبدأ القصة من حال تعارفي على هذه المرأة الفاضلة ثم أقص قصتها على لسانها هي كما روتها لي.
كان هذا في أوائل الستينات، وكنت صبيًا يبلغ من العمر عشر سنوات تقريبًا عندما اضطرت أسرتي الصغيرة لظروف ما أن تتركني في منزل هذه السيدة – التي تربطني بها قرابة – لمدة شهر تقريبًا. والمكان إحدى قرى الصعيد حيث لا كهرباء ولا مواصلات سوى ما اعتاد الناس ركوبه من دواب، مكان بدائي جدًا يعكس حال المنزل من الداخل بما يحمله من أثاث فاخر.
فكان لهذا الشهر أبلغ الأثر في حياتي كلها وخاصة الروحية منها، فالنظام صارم جدًا، إذ النوم من الساعة الثامنة مساءًا والاستيقاظ في الرابعة فجرًا ويأتي الخدم وعددهم كثير في الرابعة صباحًا حاملين أواني المياه شديدة البرودة للاغتسال. ثم تبدأ السيدة الصلاة أو زوجها وكانت الصلاة تجمع بين الارتجال وقطع من الإجبية، وبعد فترة الصلاة تقترب لمبات الكيروسين من وجه السيدة ومن الكتاب الهائل الحجم الذي تحمله بيديها وتقترب عيناها من الصفحات تبدأ بصوت اجتمعت فيه نبرات الهدوء والوداعة والحسم والمهابة: “سنقرأ اليوم حزقيال النبي”.
تستمر القراءة حوالي ربع ساعة، هي واقفة وأنا وزوجها جلوس على السرير النحاسي العالي. وما أن تنتهي من القراءة حتى تبدأ في شرح وتفسير ما قرأته بروح وسلطان تعليمي، وكانت تقرن ما تشرحه بتطبيقات عملية لحياتنا اليومية، أثناء ذلك تنتقل عيناها بيننا نحن الأربعة: زوجها وإثنان من الخدم في المنزل وأنا، بشئ من الحنان والتشجيع على السلوك بما قرأنا. ثم تأتي الصلاة الختامية التي كان يتلوها الزوج في معظم الأحيان والصبي في بعضها، وتنتهي الجلسة الصباحية بأن يقوم الجميع بنشاط لأعماله.
كانت الجريدة اليومية تأتي لهذا المنزل كل يوم ولكن في وقت متأخر لبعد القرية عن خط السكك الحديدية، ويقرأ الصبي عادة العناوين الكبيرة حتى وإن لم يفهمها كلها. وفي أحد المرات أخذ الصبي الجريدة إذ تعذرت عليه كلمة في قراءتها، وذهب لهذه السيدة لتقرأها وتشرحها له، وما أن سألها ذلك حتى أجابت برقة وعذوبة: “أسفة يا حبيبي … أننا لا أعرف القراءة” !!!
إعتبرها الصبي نوعًا من المزاح فسألها ثانية فجاءت الإجابة نفسها !!! ولكن كيف لا تجيدي القراءة؟ فأنتِ تقرأين لنا كل يوم بل تشرحين لنا أيضًا ما تقرأينه لنا؟ كيف هذا؟ أم إنكِ لا تريدي أن تعطيني من وقتِك؟ إستمرت نظراتها الحانية وقالت له: “أعتقد أنك كبرت وممكن تفهم ما سوف أقص عليك، ولكن دع الأمر سرًا بيننا. ممكن يا ترى تحفظ السر؟” فأجبت وأنا لا أعي ما أقول “طبعًا طبعًا”.
شوف يا حبيبي لقد وُلِدت سنة 1895 وكان أبي غنيًا جدًا من الأعيان، وكنت أولى بناته ولم يكن التعليم منتشرًا مثل هذه الأيام بل كان يُعتَبَر عيبًا وخاصة للبنات، ومع هذا أدخلني أبي المدرسة لاقتناعه بأهمية الموضوع. ولكن بعد إسبوع واحد من انتشار الخبر هاجت الدنيا وقامت ولم تهدأ، إجتمع الكثير من الرجال في بيتنا: “كيف يا سعادة البيه؟ ده البنت للبيت … مالها ومال العلام … دي فضيحة.” وظل أبي بوجهه الحائر يجول ببصره أمام المجتمعين يحاول أن يجد دفاعًا ولكن حججهم كانت أعلى من منطق أبي، فأخذ يمتص ثورتهم وأخيرًا إستسلم لمطالبهم وأخرجني بعد إسبوع من المدرسة، ولهذا فأنا لا أعرف القراءة.
فقاطعتها: ولكنِك …؟ فأجابت: أصبر شوية يا حبيبي … شعر والدي بالندم الشديد على قراره الخاطئ ولهذا أصر ألا يتكرر الخطأ مع إخواتي البنات، فأدخلهن كلهن المدارس. ومرَّت السنون وكبرنا وكبرت المشكلة بداخلي: إني أقل إخوتي، فهن متعلمات يقرأن ويكتبن، لم يميزهن أبي عني في شئ ولكن النقص كان داخلي والألم كان يعتصرني، ولم أفتح شفتاي أبدًا ولم أبُح لأحد بما في نفسي. وأخذت المشكلة معي بُعدًا أعمق عندما بدأن يقرأن في الكتاب المقدس بصوت مرتفع ويحكون ويفسرون ويتسلون ببعض الترانيم المكتوبة وأنا لا أستطيع القراءة أو المشاركة، بل خجلي جعلني كثيرًا ما أعتذر عن الجلوس معهن بحجة أعمال المنزل … والذي لم يعلموه أبدًا كم كانت دموعي حارقة على وجنتاي.
ومرة يا حبيبي قمت في منتصف الليل وكان عمري حوالي تسعة عشر عامًا، وكان هذا الأمر قبل زواجي بقليل وأنا في بحر من الدموع وضيق شديد، ولم أتحرك لئلا أوقظ أحد ممن ينامون معي في الحجرة. خطر لي خاطر … لماذا لا أتحدث مع الله؟ وبدأت بالفعل أتكلم معه بكلمات عفوية غير مرتبة كانت خارجة من قلب دامي وليس من لسان فصيح … أنت تقدر على كل حاجة … أنت أبو الكل … أنا تعبانة قوي ومجروحة قوي … أنا عارفة إن الشهادات عندك مش مهمة … أنا مش عاوزة التعليم … عاوزة حاجة واحدة بس … أقرأ وأفهم كتابك المقدس … أنا بينهم عاملة زي الوثنية وسط المسيحيين … أنا مش عاوزة فلوس … مش عاوزة أتجوز ولا أنجب … عاوزة حاجة واحـدة بـس … أقـرأ وأفهـم كتابـك المقـدس … ده مش كتير عليَّ ولا هو كبير عليك …
أرجوك أرجوك … أرجوك يارب.
وأخذني النعاس حتى الصباح وعند الاستيقاظ صباحًا إنصرفت لأمور العمل المنزلية، واستمر الأمر هكذا عدة أيام. وفي أحد الأمسيات أَخَذَت إحدى أخواتي الكتاب المقدس في يدها وبدأت في القراءة وكانت تجلس بجواري، ونظرت نحو ما كانت تقرأ وتضع إصبعها … وإذ بي … وإذ بي … أجد عقلي ينطق ذات الكلمات وكأنه يعرفها تمام المعرفة!! بل صارت عيناي تسبقان أصبعها وتنطق نفس الكلمات … كيف هذا؟؟ لا أعرف … لا أفهم … إنه فوق التصديق … كاد قلبي يتوقف عن النبض وأصاب الشلل عقلي … وتلاحقت أنفاسي. وقبل افتضاح أمري خرجت من الغرفة مسرعة حتى لا يلاحظ أحد عليَّ شئ، وبصورة تلقائية ذهبت لإحدى غرف إخواتي وفتحت كتابًا مدرسيًا لأعيد التجربة. ولكن الكلمات المكتوبة عادت إلى غربتها عن عينيَّ، لا أستطيع قراءة حرف واحد.
عدت مرة أخرى إلى الكتاب المقدس فعادت إليَّ قدرتي على القراءة والفهم … ماذا يحدث؟؟ يا إلهي إنني أفهم … عظيم أنت في قدرتك … عظيم أنت في كل أعمال نعمتك … ما أروعك يا إلهي … يا مفرح صغيري القلوب والنفوس. فهمت ليه بقى أنا ما بعرفش أقرأ الجرايد؟ لأني زي ما قلت لك أنا لا أعرف القراءة ومش عاوزة أقرأ حاجة تاني في حياتي غير الكتاب المقدس.
أيها الحبيب تنيحت هذه المرأة الفاضلة عام 1980 وحتى أثناء مرضها الذي لاصقها آخر ثلاث 3 في عمرها لم يفراق الكتاب المقدس يدها ولا عينيها ولا قلبها.
أيها الحبيب ألمَست معي أن هذه المرأة سوف تدين كل من تعلموا القراءة والكتابة ولا يقرأون الكتاب المقدس؟ عظيمة هي أعمالك يارب…
تدبيرك فاق العقول: الجزء الأول.
اية للحفظ
- وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي (إر15: 16)